فصل: تفسير الآيات (12- 13):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التيسير في التفسير أو التفسير الكبير المشهور بـ «تفسير القشيري»



.تفسير الآيات (12- 13):

{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)}
أبَى موسى قبولَ ثدِي واحدةٍ ممن عُرِضَ عليهن.. فَمَنْ بالغداة كانوا في اهتمامٍ كيف يقتلونه أمسوا- وهم في جهدهم- كيف يُغَذُونه!
فلمَّا أعياهم أَمرُه، قالت لهم أخته: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ}؟ فَقَبِلُوا نصيحتها شفقة منهم عليه، وقالوا: نعم، فرُّدوه إلى أمه، فلما وضعت ثديها في فمه ارتضعها موسى فَسُرُّوى بذلك، وكانوا يَدْعُون أُمَّه حاضنةً ومرضعةً.. ولم يُضِرْها، وكانوا يقولون عن فرعون: إنه أبوه.. ولم ينفعه ذلك!
ولمَّا أخذته أمُّه علمت بتصديق الله ظنها، وسكن عن الانزعاج قلبُها، وجرى من قصة فرعون ما جرى.

.تفسير الآية رقم (14):

{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)}
لمَّا كَمُلَتْ سِنُّه وتمَّ عقلُه، واستوى كمال خصاله {ءَاتَيْنَاهُ حُكْماً}: أي أَتْمَمْنَا له التحصيل، وَوَفَّرْنا له العلم، وبذلك جَرَتْ سُنَّتُنا مع الأكابر والأنبياء.

.تفسير الآية رقم (15):

{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)}
قوله جلّ ذكره: {وَدَخَلَ الْمَدِنَيةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَن هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} الآية.
قيل: دخل المدينةَ في وقت الهاجرة، وتَفَرُّقِ الناس، فَوَجَدَ فيها رجلين يتخاصمان: أحدهما إسرائيليٌّ من شيعة موسى وعلى دِينه، والآخرُ قِبطيٌّ مخالفٌ لهما، فاستغاث الإسرائيليُّ بموسى على القبطي، فوكَزَه موسى ليَدْفَعَه عن الإسرائيلي، فمات الرجلُ بذلك الوَكْز، ولم يكن موسى يقصد قَتْلَه، فقال موسى: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ}.
فقد تمنَّى موسى أنْ لو دَفَعَه عنه بأَيْسَرَ مما دفعه، ولم ينسب القتل إلى الشيطان، ولكنَّ دَفْعَهُ عنه بالغلظةِ نَسَبَه إلى الشيطان بأَنْ حَمَلَه على تلك الحِدَّة.
وهكذا.. إذا أراده اللَّهُ أمراً أجرى أسباباً ليَحْصُلَ بها مرادُه، ولو أنه أراد فتنةَ موسى لَمَا قَبَضَ روحَ الرجلِ بمثل تلك الوكزة، فقد يُضْرَبُ الرجلُ الكثيرَ من الضَّرْبِ والسياط ثم لا يموت؛ فموتُ القبطي بوكزةٍ إجراءٌ لما قضاه وأراده.

.تفسير الآية رقم (16):

{قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)}
تاب موسى عَمَّا جرى على يده، واستغفر ربَّه، وأخبر اللَّهُ أنه غَفَرَ له، ولا عتابَ بعد المغفرة.

.تفسير الآية رقم (17):

{قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)}
قال موسى ربِّ بما أنعمت عليَّ من توفيقك لي بالتوبة فلن أعودَ بعد ذلك إلى مثل ما سَلَفَ مني.

.تفسير الآيات (18- 19):

{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)}
أصبح في المدينة خائفاً على نَفْسه من فرعون لأنه كان يَدَّعي أنه يحكم بالعدل، وخاف موسى أن ينسبه في قَتْلِ القبطيِّ إلى العَمْدِ والقصد. فهو {يَتَرَقَّبُ} علم فرعون وأن يُخْبَر بذلك في وقته.
وقيل: {خَآئِفاً} من الله مما جرى منه. ويقال: {خَآئِفاً} على قومه حلولَ العذابِ بهم. وقيل: {يَتَرَقَّبُ} نصرة الله إياه. ويقال: {يَتَرَقَّبُ} مُؤْنِساً يَأْنَسُ به.
فإذا الذي استنصره بالأمس يخاصِمُ إنساناً آخَرَ، ويستعين به لِيُعِينَه، فَهَمَّ موسى. فأن يعين صاحبَه، فقال الذي يخاصمه. {يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْسَا بِالأَمْسِ}؟: قيل لم يعلم ذلك الرجل أن موسى هو الذي قَتَلَ الرجلَ بالأمس، ولكن لمَّا قَصَدَ مَنْعَه عن صاحبه استدلَ على أن موسى هو الذي قتل الرجل بالأمس، فلما ذكر ذلك شاع في أفواه الناس أنَّ موسى هو الذي قتل القبطيَّ بالأمس، فأمسك موسى عن هذا الرجل.

.تفسير الآية رقم (20):

{وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)}
جاء إسرائيليٌّ من معارف موسى يسعى، وقال إن القوم يريدون قَتْلَكَ، وأنا واقفٌ على تدبيرهم، وقد أرادوا إعلامَ فرعون.. فاخرُجْ من هذا البلد، إني لك من الناصحين.

.تفسير الآية رقم (21):

{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)}
خرج من مصر {خائفاً} أن يقتفوا أَثَرَه، {يَتَرَقَّبُ} أن يدركه الطلب، وقيل: {يَتَرَقَّبُ} الكفايةَ والنصرةَ من الله، ودعا الله فقال: {نَجِّنِّى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.

.تفسير الآية رقم (22):

{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22)}
توجَّه بنفسه تلقاء مدين من غير قصدٍ إلى مدين أو غيره، بل خرج على الفتوح، توجَّه بقلبه إلى ربِّه ينتظر أن يهديَه ربُّه إلى النحو الذي هو خيرٌ له، فقال: عسى ربي أن يهديني إلى أَرْشَدِ سبيلٍ لي.

.تفسير الآيات (23- 24):

{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)}
لمَّا وافى مدينَ شعيب كان وقت الهاجرة، وكانت لهم بئر يستقون منها، فيصبون الماءَ في الحياضِ، ويسقون أغنامهم، وكانوا أهل ماشية.
وكان شعيبُ النبيُّ عليه السلام قد كُفَّ بَصَره لكثرة بكائه؛ ففي القصة أنه بكى فذهب بَصَرَه، ثم رَدَّ الله عليه بَصَرَه فبكى، فردَّ الله بصرة فبكى حتى ذهب بَصَرَهُ، فأوحى الله إليه: لِمَ تبكي يا شعيب..؟ إِنْ كان بكاؤك لخوف النار فقد أَمَّنْتُكَ، وإن كان لأَجْلِ الجنة فقد أَتَحْتُها لك.
فقال: ربِّ.. إنما أبكي شوقاً إليك. فأوحى الله إليه لأجل ذلك أَخْدَمْتُكَ نَبِيِّي وكليمي عَشْرَ حجج.
وكانت لشعيب أغنامٌ، ولم يكن لديه أجير، فكانت بِنْتاه تسوقان الغنْمَ مكانَ الرعاة، ولم يكن لهما قدرة على استقاء الماء من البئر، وكان الرعاة يستقون، فإذا انقضَوْا فإنْ بَقِيَتْ في الحوضِ بقيةٌ من الماء استقت بنات شعيب.
فلمَّا وافى موسى ذلك اليومَ وشاهَدَ ذلك ورآهما يمنعان غنمهما عن الماء رَقَّ قلبُه لهما وقال: ما خطبكما؟ فقالتا: {لاَ نَسْقِى حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ}. وليس لدينا أجير. فلمَّا انصرف الرعاةُ سَقَى لهما، ثم ولّى إلى ظلِّ جدارٍ بعد ذلك. كان الجوع قد أصابه خلال سَفَرِه، ولم يكن قد تعوَّد، قط الرحلةَ والغُرْبةَ، ولم يكن معه مالٌ، فدعا الله: {فَقَالَ رَبِّ إِنِّى لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}.
قيل طَلَبَ قوةً تُزِيل جوعَه، وقيل طَلَبَ حالاً يستقِلُّ بها. والأحسن أن يقال جاع فَطَلَبَ كِسْرَة يَسُدُّ بها رَمَقَه- والمعرفة توجِب سؤالَ ما تحتاج إليه من الله قليلاً أو كثيراً. فلمَّا انصرفت ابنتا شعيب خَرَجَ شعيبُ إلى ظاهر الصحراء على طريق الماشية ليمسَّها بيديه فوجَدَ أثرَ الزيادة في تلك الكَرَّة، فسأَلَهما فَذَكَرَتا له القصة، وما سمعتا منه حين قال: {رَبِّ إِنِّى لِمَآ َأنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} فقال شعيب: إذاً هو جائع. وبَعَثَ إحداهما لتدعوَه.

.تفسير الآية رقم (25):

{فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)}
قيل إنما استحيَتْ لأنها كانت تخاطِبُ مَنْ لم يكن لها مَحْرَماً.
وقيل لمّا دَعَتْه للضيافة تكلمتْ مستحييةً- فالكريم يستحي من الضيافة.
ويقال لم تَطِبُ نَفْسُ شعيب لمَّا أَحْسَنَ موسى إليه وأنه لم يكافئه- وإن كان موسى لم يُرِدْ مكافأةً منهم {فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ}: لم يَقُلْ: فلما جاءَه قَدَّم السُّفْرةَ بل قال: وقصَّ عليه القصص.. وهذا طَرَفٌ من قصته.
ويقال: وَرَدَ بظاهرِه ماءَ مدين، ووَرَدَ بقلبه موارِدَ الأُنْس والرَّوْح. والموارد مختلفة؛ فمواردُ القلبِ رياضُ البَّسطِ بكشوفات المحاضرة فيطربون بأنواع الملاطَفَة، ومواردُ الأرواح مشاهدُ الأرواح فيُكَاشَفون بأنوار المشاهدة، فيغيبون عن كل إحساسٍ بالنَّفْسِ، ومواردُ الأسرارِ ساحاتُ التوحيدِ.. وعند ذلك الولاية لله، فلا نَفْسَ ولا حِسَّ، ولا قلبَ ولا أُنْسَ.. استهلاكٌ في الصمدية وفناءٌ بالكليةّ!
ويقال كانت الأجنبيةُ والبعد عن المحرميَّة يوجبان إمساكه عن مخاطبتهما، والإعراضَ والسكونَ عن سؤالهما.. ولكن الذي بينهما من المشاكلة والموافقة بالسِّرِّ استنطقة حتى سألهما عن قصتهما، كما قيل:
أَجَارَتَنا إِنَّا غريبان هاهنا ** وكلُّ غريبٍ للغريبِ نسيبُ

ويقال: لمَّا سألهما وأخبرتا عن ضعفهما لزمه القيامُ بأمرهما؛ ليُعْلَمَ أنَّ مَنْ تَفَقَّدَ أمرَ الضعفاء ووقف على موضع فاقتهم لزمه إشكاؤُهم.
ويقال مِنْ كمالِ البلاء على موسى أَنَّه وافى الناسَ وكان جائعاً، وكان مقتضى الرِّفْقِ أَنْ يُطْعِموه، ولكنه قَبَضَ القلوبَ عنه، واستقبله مِنْ موجباتِ حُكْمِ الوقتِ أَنْ يعملَ أربعين رجلاً؛ لأن الصخرة التي نَحَّاها عن رأس البئر- وَحْدَه- كان ينقلها أربعون رجلاً، فلمَّا عَمِلَ عَمَلَ أربعين رجلاٌ، تولَّى إلى الظِّلِّ، وقال: إنْ رأيتَ أَنْ تُطْعِمَني بعد مُقَاساة اللتيا والتي.. فذلك فَضْلُكَ!.
قال ذلك بلسان الانبساط، ولا لسانَ أحلى من ذلك. وسُنَّةُ الشكوى أن تكون إليه لا مِنْكَ.. بل منه إليه.
ويقال: تولَّى إلى ظلِّ الأُنْس ورَوْح البسط واستقلال السِّرِّ بحقيقة الوجود.
ويقال قال: {رَبِّ إِنِّى لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}: فَزِدْني فقراً؛ فإنَّ فقري إليك يوجِبُ استعانتي بك.

.تفسير الآيات (26- 27):

{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)}
كان شُعيبُ عليه السلام يحتاج إلى أجير، ولكن لا يسكن قلبُ إلى أحدٍ، فلمَّا رأى موسى، وسمع من ابنته وصفةَ بالقوة والأمانة سأل:
عَرَفْتُ قُوَّتَه.. فكيف عرفْتِ أمانتَه؟
فقالت: كنتُ أمشي قُدَّامَه فأَخَّرَني عنه في الطريق قائلاً: سيري ورائي واهديني، لئلا يَقَعَ بَصَرُه عليَّ.. فقال شعيب: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَىَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِىَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}.
فرغب موسى وتزوجها على صداقٍ أن يعمل عشر حجج لشعيب.
وفي القصة أن شعيباً قال لموسى: ادخلْ هذا البيتَ وأخْرِجْ مما فيه من العِصِيِّ عصاً، وكان البيتُ مظلِماً، فَدَخَل وأخرج العصا، تلك التي أظهر الله فيها معجزاته، ويقال: إنها كانت لآدم عليه السلام، ووقعت لشعيب من نبيٍّ إلى نبيٍّ. إذ يقال: إنه لما هَبَطَ آدمُ إلى الأرض صال عليه ما على وجهها من السَِّباع، فأنزل عليه الله عصاً، وأمَرَه جبريلُ أنْ يَرُدَّ السباعَ عن نَفْسِه بتلك العصا.
وتوارث الأنبياءُ واحداً بعد الآخر تلك العصا، فلمَّا أخرج موسى تلك العصا، قال شعيب: ردَّها إلى البيت، واطرحها فيه، وأخْرِجْ عصاً أخرى، فَفَعَلَ غير مرة، ولم تحصل كلَّ مرة في يده إلا تلك العصا، فلمَّ تَكَرَّرَ ذلك عِلِمَ شعيبُ أنَّ له شأناً فأعطاه إياها.
وفي القصة: أنه في اليوم الأول ساق غَنَمه، وقال له شعيب: إنَّ طريقَكَ يتشعب شِعْبَيْن: على أحدهما كَلأٌ كثيرٌ فلا تَسْلُكْه في الرعي فإنَّ فيه ثعباناً، واسْلُكْ الشِّعْبَ الآخرَ. فلمَّا بلغ موسى مَفْرِقَ الطريقين، تَفَرَّقَتْ أغنامُه ولم تطاوعه، وسامت في الشِّعْبِ الكثيرِ الكَلأَ، فَتَبِعَها، ووقع عليه النومُ، فلمَّا انتبه رأى الثعبانَ مقتولاً، فإن العصا قتلته، ولمَّا انصرف أخبر شعيباً بذلك فَسُرَّ به. وهكذا كان يرى موسى في عصاه آياتٍ كثيرة، ولذا قال: {وَلِىَ فِيهَا مَئَارِبُ أُخْرَى}.

.تفسير الآية رقم (29):

{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)}
مَضَتْ عَشْرُ حِجَجٍ، وأراد موسى الخروجَ إلى مصر، فَحَمَلَ ابنَه شعيب، وسارَ بأهله متوجِّهاً إلى مصر. فكان أهلُه في تسييره وكان هو في تسيير الحقِّ، ولمَّا ظَهَرَ ما ظهر بامرأته من أمر الطِّلْقِ استصعب عليه الوقتُ، وبينا هو كذلك آنسَ من جانب الطور ناراً- أي أبصر ورأى- فكأنه يشير إلى رؤية فيها نوعُ أُنْسٍ: وإنَّ اللَّهَ إِذا أراد أمراً أجْرَى ما يليق به، ولو لم تقع تلك الحالةُ لم يخرج موسى عندها بإيناس النار، وقد توهم- أول الأمر- أن ما يستقبله في ذلك من جملة البلايا، ولكنه كان في الحقيقة سَبَبَ تحقيق النبوة. فلولا أسرار التقدير- التي لا يهتدي إليها الخَلْقُ- لما قال لأهله: {امْكُثُواْ إِنِّى ءَانَسْتُ نَاراً لَّعَلِّى ءَاتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ}.
ويقال: أراح له ناراً ثم لَوَّح له نوراً، ثم بدا ما بدا، ولا كان المقصودْ النَّارَ ولا النورَ. وإنما سماع نداء: {إِنِّى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالِمِينَ}.